أحمده سبحانه ما دامت الأرض والسموات . وأشهد ألا إله إلا الله رب البريات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أيَّده ربه بالآيات البينات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والدرجات أما بعد :-
فاعلموا – رحمكم الله – أنَّ لكم في شهركم هذا أنواعاً من العبادات ، ونفائس من القربات يجتهد فيها أصحاب الهمم العاليات ما بين صلاة وصيام وقراءة وصدقات ولئن نسيتم شيئاً أو شغلت عن أمر فلا تنسوا ولا تنشغلوا عما أمركم الله به قال تعالى (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) إنها عبادة الدعاء ، بل إنَّ الدعاء هو العبادة ، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم [1]
إنَّ الدعاء – يا عباد الله – وظيفة العمر ، وملازمة الدعاء سبب لدفع البلاء واستجلاب رحمة رب الأرض والسماء ، وإن في الدعاء من الذلِّ والانكسار الشيء العظيم . به تسكن النفس وينشرح الصدر ، ويعلم العبد أنَّ له ملاذاً يلوذ به ، وملجأ يركن إليه فتعظم صلته بربه فما أقر عين من فتح الله له باب الدعاء وما أهنأ عيشه وإنَّ الداعي لربه ينال بذالك معية الله قال الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني) رواه مسلم فمن ظنَّ بربه إجابة الدعاء وأنه يناجي كريماً ، ويرفع شكايته إلى من لا يعجزه شيء فهو حري بمعية الله
وإن للدعاء آداباً ليتفطن لها الداعي منها/
أن يخلص نيته في دعائه ويحضر قلبه ليوقن بالإجابة قال النبي صلى الله عليه وسلم " أدعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه " رواه الترمذي وحسن الألباني (الجامع 542)
ومن آداب الدعاء أن يعزم العبد المسألة قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دعا أحدكم فلا يقل : اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ، وليعزم مسألته إن الله يفعل ما يشاء لا مكره له ) متفق عليه وبهذا يعلم خطأ ما يجري على ألسنة كثير من الناس تجده إذا دعاعلق ذلك بالمشيئة ، والواجب ترك ذلك والعزم في المسألة
ومن آداب الدعاء أن لا يستعجل الإنسان الإجابة قال النبي صلى الله عليه وسلم : "يستجاب لأحدكم مالم يستعجل ، قيل: يا رسول الله ، ماالاستعجال ؟ قال : يقول قد دعوت ، وقد دعوت فلم يستحب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء. وهذه حال الإنسان الظلوم الجهول يستبطئ فضل الله وما علم أن لله حكما في ذلك وأسرارا قد لا تظهر للعباد .
ولا يغب عنك أيها الداعي حال الصادقين الملحين في دعائهم ، كيف طال دعاؤهم واستمر صبرهم حتى جاءهم الفرح من ربهم . فهذا نبي الله أيوب عليه السلام قال الله عنه (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) فقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة في مدة بلاء أيوب وطول صبره على بلواه ، وأقل ما قيل في ذلك ثلاث سنوات قال تعالى (فاستجبنا له فكشفنا مابه من ضر) وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام جلس سنين يدعو ربه أن يجمع شمله بابنه يوسف عليه السلام حتى قبل إن ما بين الفراق واللقاء أربعون وقيل : ثمانون سنة وهكذا حال زكريا عليه السلام حين دعا ربه بالولد (رب لاتذرني فردا وأنت خير الوارثين) وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقي شهراً يدعو الله على بعض قبائل العرب الظالمين
واعلم ياعبدالله أنك بدعائك لن تعدم خيراً فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مامن مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعه رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته ,وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن نصرف عنه من السوء مثلها " رواه أحمد والحاكم وصححه. إن شأن الدعاء عند الله شأن عظيم وشأنه من الصائم أبلغ من غيره فإن الله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) ذكر الله تعالى هذه الآية في أثناء آيات الصيام تنبيها أن للدعاء من الصائم منزلة خاصة ، فليتنبه لهذا الصائم وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث تروى من أن للصائم دعوة مستجابة وفي بعضها التقيد عند فطره. فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث لا ترد دعوتهم الصائم حين يفطر والإمام العادل ودعوة المظلوم ) وصححه ابن حبان وحسنه ابن حجر [2]
ثم بعد هذا كله احذر موانع الدعاء ومن أعظمها أكل الحرام فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء. يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام قال النبي صلى الله فأنى يستجاب له) فاجتهدوا أيها الصائمون في الدعاء في صلاتكم ، وبين الأذان والإقامة ، وفي آخر ساعة الجمعة ، وأمنوا على دعاء إمامكم في قنوت الوتر بقلوب حاضرة، ونفوس متطلعة ترجو ما عند الله فاللهم وفقنا لحسن الدعاء، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم ..
الحمد لله أمر بدعائه ، ووعد السائل إجابة سؤله، وأثنى على الداعين من خيرة خلقه، فقال تعالى (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين) وأشهد ألا إله إلا الله .... وأشهد أن محمدا عبده ...أما بعد :-
فيا من غلبته نفسه ووقع في شيء مما حرَّم الله عليه، هلا سألت الله بصدق أن يعينك على نفسك، وأن يملأ قلبك تعظيما لخالقك، وأن يقسم لك من خشيته ما يحول بينك وبين معصيته ويا من أقلقه المرض،وأعيته الحيلة، هلا تذكرت أن الشافي الله عزَّ وجل (وإذا مرضت فهو يشفين) فاسأل الله العافية، وأن ينزل عليك شفاء لا يغادر سقماً ويا من شقَّت عليه تربية أولاده هلاَّ سألت الله أن يصلح لك ذريتك، وأن يجعلها ذرية طيبة تقر بها عينك في الدنيا والآخرة (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء)
أمَّا أنت يا صاحب الدين، ويا من لاحقه الغرماء، وأنت منهم على ميعاد ويدك خالية، تقطعت حبالك، وأنشغل بهم الدين بالك استمع إلى حديث علي رضي الله عنه أنَّ مكاتبا جاءه فقال إني عجزت عن مكاتبتي فأعني فقال ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل صبير دينا أداه الله عنك قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك رواه الترمذي واللفظ له، وقال حديث حسن غريب والحاكم وقال صحيح الإسناد، وحسنه الألباني [3]
أما أنت يا من ركبه الهم واستولى عليه الحزن، أما سمعت بما حدَّث به ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله عز وجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات قال أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن " حديث صحيح رواه أحمد والبزار و غيرهما.
أيها الصائمون بقي لكم من الشهر أقل مما مضى منه، بقيت أيامه الغرر ولياليه الدرر فأنتم تستقبلون العشر الأخيرة فأحسنوا استقبالها وكأني بها وقد أصبحت أياماً خالية، فتزودوا رحمكم الله فيها للأيام الباقية تخففوا من أشغالكم الملهية وارتباطاتكم المنسية والزموا بيوتكم ومساجدكم متعبدين لربكم . استجمعوا قلوبكم عند قراءة كلام خالقكم ودعاء مولاكم. حثوا أولادكم أن يأخذوا حظهم من الأيام المقبلة وعاتبوا المفرط فيها لينشأ على تعظيمها . أقضوا مشاغلكم اللازمة نهاراً لتصفو قلوبكم ليلا فلا أظن قلباً ينشط لقيام الليل بعد أن أشغله صاحبه بالخروج والتسوق والفرجة. أحيوا سنة قيام الله احضروا التراويح وقيام آخر الليل واعلموا أن السنة في قيام الليل، وعليه هدي السلف إطالة صلاة الليل، ففي حديث السائب بن يزيد قال كان القارئ يقرأ بالمئين - يعني بمئات الآيات – حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر رواه مالك بسند صحيح . لقد بلغ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأخيرة تحرياً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر . فيا سعادة من وفقه الله لتلك العبادة إن لم يشغله عنها ما هو أهم منها من رعاية والد أو ولد أو ملاحظة بيته وشؤون أسرته . فالاعتكاف خلوة عن الخلق وقرب من الخالق . فيالذة مناجاة المعتكفين، ويا طيب لحظات الاعتكاف . لا يصفها إلا من وفق لها، ومنَّ عليه ربه فصار من أصحابها . وفقنا الله لطاعته، ومن عليه بالقرب منه، والإنس بعبادته .
ثم قبل ذلك وبعده من أوجب واجباتكم رعاية أسركم والمحافظة على مراهقات بيوتكم من الخروج الطويل يوصلها أخوها أو السائق ليلقيها في أسواق مزدحمة وبين أناس فيهم البر والفاجر وفيهم من في قلبه مرض من الباعة والمتسوقة فتفتن نفسها وتفتن غيرها والشيطان قد أخذ حظه منها وافراَ في النقابات الواسعة والعباءات الضيقة . نسأل الله الحماية والسلامة من الشر وأسبابه، والسوء وأصحابه .
فاللهم احفظنا واحفظ لنا وقنا الفتن ما ظهر ....
===================
رابط الموضوع
الحمد لله
دروس شهر رمضان 1434 (21): شأن الدعاء .... عبد الرحمن الدهش