شعرك يقف و ينتكش
حاولت تهدئة نفسي و التقاط أنفاسي بينما كانت مدام ( ..... ) تستحثها لتوقع على بعض الأوراق . أنهتا ما كانتا تفعلانه عندها التفتت لي الدكتورة ( ...... ) و قالت بنفاد صبر :
- خيييييييير ؟؟؟
أجبتها بكل ما أعرف من أدب :
- السلام عليكم و رحمة الله و بركاته يا دكتورة
لكنكم لن تصدقوا ما أقدمت على فعله بعد ذلك ..
لطالما كنت أنقلب على ظهري ضاحكاً من أولئك الذين يمثلون في أفلام الرعب و مسلسلاته عندما يُقدِم الواحد منهم على خطوة حمقاء يعلم الجميع أنها حمقاء . تلك التصرفات التي أسهب الكاتب أحمد خالد توفيق في الحديث عنها . كالمرور من فوق جثث المسوخ ، أو كالانفصال عن المجموعة أو كالبقاء و حيداً في منزل مهجور ليلاً . أنا أعلم أن الحياة لا بد أن تدب في المسخ ؛ و أن الموت مصير كل وحيد . أنت تعلم ذلك أيضا ، كل طفل يعلم ذلك و يحفظه عن ظهر قلب لكن الأبطال - بكل بساطة - لا يعلمون ، فيقعون ضحية إهمالهم .
الفكرة التي أريد إثباتها هنا .. هي أنك حينما تشعر بالرعب لا يعود تفكيرك منطقيا . كل الثوابت التي تعرفها تختفي من ذاكرتك تماماً فلا يغدو أي تصرف تقوم به وقتها معقولاً .
هذا يعود بنا إلى ما فعلتُه ...
لقد مددت يدي إليها بالسلام ....
لا لم تخطئوا في قراءة الكلمة . أعرف أنني ألقيت عليكم بقنبلة ، أعلم ما تفكرون به الآن . كلا ، لا داعي لتلك الشهقات التي أكاد أسمعها و تكاد تخترق طبلة أذني . لا داعي لغلق الأفواه براحات أيديكم .
نعم .. لقد فعلتها
لكم أن تتخيلوا إذن نظرة الاستنكار و الاستهجان و الاحتقار الرهيبة التي رمتني بها . إنها نظرة من
. طراز ما هذا ال ( قرف ) التي ترمي بها الفتيات كل صرصور ترينه .
لا داعي للقول بأنني في الثانية التالية لتلك الفعلة الشنعاء ؛ أدركت فداحتها . علَّقتُ يدي في الهواء
بتردد ، لا أعلم إن كان يجب عليَّ أن أبقيها ممدودة أم عليَّ أن أسحبها . أنا أريد سحبها لكني خائف من أن تمد يدها لتصافحني في الوقت الذي أسحبها فيه فأزيد بذلك الطين بِلَّةً كما يقولون .
أنقذتني هي من ارتباكي هذا بقولها الناري :
- عاوز إيه ؟؟؟؟؟؟
سارعت بسحب يدي الممدودة أمامها بعد أن أيقنت أنها لم تكن لتصافحني – فهذا هو الأكيد بالطبع – و أخرجت منديلا من جيبي لأجفف به عرقا و همياً على جبيني كما يفعل غالبية المتوترين في أفلام السينما .
قلت لها :
- أنا كنت عاوز أكلم حضرتك بخصوص محاضرة النهارده يا دكتورة
بنبرة نارية أكثر و أكثر :
- مالها محاضرة النهارده ؟؟؟
ازدردت لعابي بصعوبة و أنا أقول :
- أنا يا دكتورة وصلت بعد ما حضرتك قفلتي باب المحاضرة بخمس دقايق . أنا عارف إن أنا متأخر بس و الله يا دكتورة ظروف المواصلات كانت وحشة جداً النهارده بالذات ، خصوصا إنه أول الأسبوع يعني .
بصوت بدأ يعلو و سحنة بدأت بالانقلاب إلى سحنة وحش كاسر قالت :
- إنت لو كنت عاوز تحضر المحاضرة كنت عملت المستحيل عشان تحضرها . إنما إنتم كل واحد فيكم ينام في بيته و يصحى بمزاجه و بعدين يفتكر إن وراه محاضرة فيقول أما أروح أحضرلي بتاع عشر دقايق و أنزل .
كان قولها يحمل إتهاماً صريحاً لي ، و متى ؟؟ اليوم بالذات ؟؟؟ كان يمكن أن أتقبل كلماتها في أي يوم آخر إلا اليوم . لأنني اليوم بالذات قد فعلت المستحيل بالفعل لأصل في الميعاد المحدد .
بدأت نبرات صوتي تعلو و تثور فأنا لست ممن يحسنون السيطرة على أعصابهم عند الغضب ، صدق صلى الله عليه وسلم عندما قال : " ليس الشديد بالصرعة ، لكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب " و هو أمر بالغ الصعوبة بكل تأكيد .
قلت لها :
- أنا فعلاً النهارده و النهارده بالذات عملت المستحيل و برضه ما دخلتش المحاضرة و لا أخدت الشيت .
- و أنا أعمل لك إيه يعني ؟؟
- ممكن حضرتك تديني الشيت . ده من حقي لأني فعلا جيت و كنت عاوز أحضر و عدم حضوري للمحاضرة مكنش بسبب مباشر مني أنا .
- يا سلااااااااااااااااام !!!! يعني إنت عاوزني أساويك بطالب محترم نفسه و محترم المحاضرة و محترم اللي بيديله و ملتزم ، بطالب مش هامه حاجة خالص ؟؟؟
- مين قال لحضرتك إن أنا مش هاممني حاجة خالص ؟؟ أنا لو مش هاممني حاجة مكنتش جيت لحضرتك هنا عشان أطلب شيت ، ده أولاً .
ثانياً بقى ، أنا مش من مكان قريب عشان أقدر بمزاجي أكون موجود هنا قبل المحاضرة بساعتين زي ما حضرتك كنتي بتقولي قبل كده مرة . الطلبة اللي بيعملوا كده غالبيتهم من الزقازيق أو من مكان قريب منها مش من بلد بعيدة زي بلدي محتاج على الأقل ساعة و نص عشان آجي منها للزقازيق .
ثالثاً و ده الأهم ، الناس البعيدة اللي زي حالاتنا المفروض ما يتحاسبوش عالعشر دقايق و الربع ساعة تأخير ، اللي يتحاسب عليها الناس اللي في إمكانهم ييجوا قبل كده و ما بيجوش .
كانت مرافعتي متقنة ، سددت فيها عليها كل الثغرات ، ربما كان يجب عليَّ أن ألتحق بكلية الحقوق بدلاً من كليتنا هذه . الحمد لله ، قدر الله و ما شاء فعل . و الذي يؤكد قولي هو أنها قد هبت من مقعدها فجأة بعدما تصاعدت بيننا نبرة الحديث إلى هذا الحد و هوت بقيضتها على المكتب بكل قوة صائحة :
- إنت كمان بتقل أدبك و بتقاطعني و بتتهمني بالظلم !!!!!
- أنا مقاطعتش حضرتك يا دكتورة و لا قليت أدبي و لا إتهمت حضرتك بأي حاجة ، أنا بس بوضح وجهة نظري . و الاختلاف في وجهات النظر و التعبير عنها بحرية أمر مسموح و حق يكفله الدستور لكل مواطن .
- و كمان بتكدبني .. إطلع برا حالاً و إلا هتشيل المادة السنة دي
رددت بكل هدوء يتنافى مع انفعالي الذي كنت عليه منذ قليل :
- حاضر يا دكتورة أنا طالع برا حالاً أهه ، ما هو أساساً هي دي بلدنا و هو ده اللي إحنا متعودين عليه . الواحد اللي بيقول الحق قدام الكبار بياخد على دماعه .
صرخت فيَّ بصوت مرعب سمعه كل من بالقسم تقريباً فخرجوا ليروا من ضحيتها الجديدة :
- إمشي من قدامي يا حيوان لا أوريك اللي ما يتورا ..
خرجت من مكتبها و مشيت في الممر حتى وصلت إلى بوابة السجن و خرجت خارج هذا القسم الرهيب . كنت قد وصلت إلى حالة أجزم بأن ضغطي قد إرتفع فيها ليتجاوز المائتين .
هبطت الدرجات بسرعة و ذهبت إلى مكاننا الأثير بجانب الملعب لأبحث عن أصحابي الذين افتقدتهم كثيراً هذا اليوم . قابلت أحدهم فأخبرني بأن رجلاً – ابن حلال – قد سأل عني اليوم في الكلية . كان يسأل كل من يقابله عني و يذكر أني في الفرقة الثالثة فأرشده البعض إليهم فأعطاهم محفظتي و أخبرهم بأنه قد عثر عليها ملقاة في الشارع ، أعرفتم الآن أين فقدتها ؟؟ ليس في الموقف مثلما تصور الجميع ..
أخبرهم أيضا أنه قد تعرف على صاحبها من البطاقة و الكارنيه فأخذوها منه شاكرين .. حمداً لله ، لقد حدث لي أخيراً شيءٌ جيد في هذا اليوم الطويل . فتحت المحفظة لأجد فيها البطاقة و الكارنيه و نصف جنيه فقط لا غير .
لكم أن تتخيلوا الباقي ، أمضيت بقية يومي مع أصدقائي على نفس المنوال الذي نقضيه به كل يوم . بالطبع لم أسلم من عبارات الاستهزاء من أمثال : " شفت يا سيدي آخرة الإجتهاد و المجتهدين ؟؟ يا ابني إحنا مش منهم و على قد لحافك مد رجليك " و على غرار : " عشان ما تبقاش تفكر في الإنحراف تاني يا بطل " ..
اقترضت بعض المال منهم لأرجع إلى البيت . عندما عدت بمنظري الرهيب نظرت إليَّ أمي و لم تبالِ ، لكني أعلم أنها قالت في نفسها : " كنت عارفة إنك ناوي على بلوة النهاردة من ساعة ما شفتك الصبح "
كنت منهكاً خائر القوى ، اتجهت صوب الحمام و من بعدها ارتميت على السرير و قبل أن أنام ، و في مرحلة يقظة ما قبل النوم التي أخبرتكم عنها ، قررت ثانية أن :
Tomorrow is a new day
سيكون يوماً جديداً بالفعل ، لكنه قطعا لن يكون أبداً كاليوم .
آسَفُ إن كنت قد أطلت عليكم ..
تصبحون على ألفِ ألفِ خير ..
أخوكم المطحون ... طالب بكلية الطب البشري / السنة الثالثة / 2006 – 2007
تمت بحمد الله تعالى