موضوع: من أخلاق الطبيب المسلم الإثنين نوفمبر 29, 2010 6:55 am
من أخلاق الطبيب المسلم د. خالد بن علي بن أحمد الوزان
لقد اتفقت شرائح المجتمع – وعلى رأسهم أهل العلم – على شرف مهنة الطب ونبلها، فالطبيب مؤتمن على صحة النفس البشرية وهي من أثمن ما لدى الإنسان، ومؤتمن على أسرار المرضى وأعراض الناس، وهاهو الإمام الشافعي رحمه الله يعبر عن ذلك بقوله: (صنفان لا غنى للناس عنهما: العلماء لأديانهم، والأطباء لأبدانهم)ا.هـ، وذكر الرازي في فضل الأطباء: (أنهم قد جمعوا خصالاً لَم تجتمع لغيرهم، منها اتفاق أهل الأديان والمُلك على تفضيل صناعتهم؛ واعتراف الملوك والسّوقَة بشدة الحاجة إليهم؛ ومجاهدتهم الدائمة باكتشاف المجهول في المعرفة وتحسين صناعتهم؛ واهتمامهم الدائم بإدخال السرور والراحة على غيرهم)ا.هـ. فإن عَرف الطبيب قدر مهنته وعظيم شرفها لم يسعه إلاّ أن يتصرف بِما يليق بقدرها ومكانتها، فعلى الطبيب أن يتصف بكل صفة حسنة تَليق بالشرف الرفيع الذي حباه الله عز وجل لمن يقضون حوائج الناس ويمسحون آلامهم ويُفرِّجون كُربَهم، كما عليه بالمقابل أن يسمو بنفسه عن ارتكاب كل ما لا يليق به وبمهنته، كالخداع، والكذب، والتزييف، وإخلاف المواعيد، والتكبُّر، وادعاء ما لا يعرف، وأكل أموال الناس بالباطل.
وإذا كان الإسلام يحمل أهله على مكارم الأخلاق وإتقان العمل، فإنها في حق المنتمين إلى مهنة الطب أوجب وآكد، ولذا سنتحدث هنا عن بعض الأخلاق التي ينبغي للطبيب المسلم أن يتحلى بها على المستويين الشخصي والمهني، ولعلنا قبل أن نشرع بذلك نُذَّكِر بجماع ذلك، وهو الإخلاص لله تعالى واستشعار العبودية له سبحانه، فهو من أهم ما يجب أن يتصف به الطبيب المسلم، قال الله عز شأنه: وماَ خَلقتُ الجِنَّ والإنسَّ إلاّ لِيعـبُدون [الذاريات:56]. فإذا كان الله لم يخلق خَلقَه إلا لعبادته فإنَّ تعبّد الله بكلِّ الأعمال بما فيها نشاطاته المهنية يُصبح من أوجب الواجبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمالُ بالنيَّاتِ وإنّما لكُلِّ امرِئٍ ما نَوَى» [متفق عليه]، فعلى الطبيب المسلم أن يخلص أعماله كلها لله تعالى، وعليه أن يستشعر مُراقبة الله عز وجل له في كلِّ أحواله، وأنه محاسب على كلِّ صغيرة وكبيرة.
الصدق: الصدق صفة أساسية من صفات المؤمن قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119]. وهو ليس صدق الكلمة فحسب، بل وصدق النيّة وصدق العمل والأداء، ولذا فهو يشمل العلاقات الإنسانية كلها، فالطبيب صادق في طلبه للعلم، صادق في أداء حقوق وظيفته، صادق في علاج لمرضاه ونصحهم، صادق في إجراء أبحاثه العلمية، صادق في أحواله كلها. ولا يَليق بمن كان قدوة لغيره موصوفاً بالمعرفة والحكمة أن يُتهم بالكذب ناهيك أن يُعرف به، ولا شكّ أن الطبيب يأوي إليه المكروب؛ وهو واثق من صدق الطبيب في عمله وقوله، فإن اهتزت تلك الثقة ضاع كل جهد الطبيب ولم يُجْدِ علمه وحِذقه. والصدق مع المريض قد يتطلب شجاعة كبيرة ونزاهة عالية في بعض المواطن، فالشيطان وحب الدنيا قد يزينان للطبيب عدم الاعتراف لمريضه بخطأ في العلاج، وفي اعتقادي أن اعترافه بدافع الصدق والإخلاص يرفع قدره عند ربه ويزيد ثقة مريضه به. ولك أن تتصور انحطاط الطبيب الذي انهزم أمام شهوة المال فيُقنع المريض بأهمية فحوص إضافية لا تتطلبها حالته المرضية، أو يُرَغّب المريض بالعلاج الأكثر كلفة رغم أنه ليس الملائم له. ليكن شعارنا الصدق في كل شيء ولنستحضر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يُكتب عند الله صديّقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يُكتب عند الله كذّابا) [أخرجه البخاري ومسلم].
الأمانة والنزاهة: الطبيب مؤتَمَن على الأرواح والأعراض، فلابدَّ أن يَتصف بالأمانة، وأن يؤدي هذه الأمانة على وجهها الصحيح، قال تعالى واصفاً المؤمنين: والّذينَ هُمْ لأماناتِهِمْ وعَهْدِهمْ راعُونَ [المؤمنون:8]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) [أخرجه أبو داود]، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة من خاننا، فكيف بمن ائتمننا على نفسه أو عرضه؟ واحذر من السقوط في الخيانة ولو لمرة واحدة فقد تستمرئ النفس ذلك وتواصل منحدر الخيانة. ومن الأمانة أن تنصح من استشارك، وأن تصدق من وثق برأيك، ومن الأمانة حفظ أسرار المرضى وستر عيوبهم، ومن الأمانة بذل الوسع وإتقان العمل.
التواضع واحترام الآخرين: والتواضع صفة لابد لكل من يتصدى للخدمة العامة أن يتحلى بها، وعلى رأسهم الأطباء، ولا ينفر الناس أكثر مما ينفروا من المتكبر، فعلى الطبيب أن يكون متواضعاً، متجنبا التعالي على المرضى، والنظرة الدونية لهم مهما كان مستواهم العلمي أو الاجتماعي، فهذا هو ما يجعله موضع احترام الآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنةَ من في قلبه مثقال ذرة من كِبر» [أخرجه مسلم]، وقال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) [أخرجه مسلم]. كما ينبغي للطبيب أن لا يفارقه التواضع أثناء التعامل مع زملاء المهنة من غير الأطباء، وأن يقدر دورهم في علاج المريض والعناية به، وأن يبني علاقته بهم على الثقة المتبادلة والتعاون البناء لما يخدم مصلحة المرضى. واعلم أن تميزك عن الآخرين الذي جعلته سبب لتكبرك واستعلائك هو في الحقيقة فضل من الله ونعمه، فهل يليق أن تقابل الإحسان بالإساءة!؟ أليس الذي خلقنا في أحسن تقويم قادر على أن يسلبنا هذه النعمة بأسرع مما نتصور؟
الصبر والحلم: الطب مهنة شاقة مضنية، والتعامل مع نوعيات مختلفة من فئات المجتمع يتطلب قدراً كبيراً من الصبر وسعة الصدر، فهذا عجول، والثاني سريع الغضب، والثالث لا يتحمل أدنى ألم، والآخر لا يتحمل الانتظار للدخول على الطبيب، فلا بد للطبيب أن يتحلى بقدر كبير من الصبر والحلم والأناة، فيتحمل تصرفات المرضى ويعذر ضيق بعضهم بسبب المرض والألم، ولا يقابل الأذى بمثله كأن يمتنع عن معالجة مريض أغلظ القول مثلاً، أو يقصر في إعطائه حقه الكامل من الرعاية. ولعلي أذكركم بقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله) [أخرجه البخاري]، قال ابن حجر: (يصبره الله: أي فإنه يقويه ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له، ويذعن لتحمل الشدة) ا.هـ.
العطف والمحبة: ينبغي أن يكون الطبيب لبقاً مع مرضاه، متلطفاً بهم، محباً لهم، عطوفاً عليهم، رفيقاً بهم. ما أجمل ذلك الطبيب الذي يستخدم أدواته عند الفحص بكل رفق حتى يجنب المريض أي آلام مفاجئة، والطبيب المحب العطوف لا يتأخر عن تقديم العون للمريض مادام يستطيع ذلك، ألا يُغبط الطبيب الذي استجاب للمريض الذي وصل إلى العيادة في نهاية الدوام وهو يشتكي من الألم، فقدم الطبيب له العون حتى بعد نهاية الدوام، هنيئا لهذا الطبيب الذي طبق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وما كان لهذا أن يحدث لولا دوافع العطف والإحسان للناس. وما أحسن ذلك الطبيب الذي قابل إساءة المريض بالعفو والصفح واستمر بتقديم العون إليه، فالقلب الذي يملأه المحبة قادر على العفو رغبة بما عند الله.
الإنصاف والاعتدال: الاعتدال هو أحد القواعد الأساسية التي ينادي بها الإسلام، فلا إفراط ولا تفريط، قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا [البقرة:143]. فالطبيب يجب أن يكون منصفاً لمرضاه عادلاً في معاملتهم، وذلك لأنهم في كثير من الأحيان يسلمون إليه أمورهم، ثقة به ولحاجتهم إلى نصحه وخدمته، فلا يجوز أن يستغل الطبيب هذه الثقة وهذه الحاجة فيغمط المريض حقه، سواء كان ذلك الحق في نوع الرعاية الطبية المناسبة للمريض أو في التكلفة المادية التي تثقل المريض أو وليَّه أو جهة عمله، ولا ينبغي للطبيب أن يجامل بعض الناس على حساب بعضهم ولو بقدر يسير، أو يقدِّم أو يؤخر دون وجه حق، وعليه المساواة في المعاملة بين جميع المرضى وعدم التفريق بينهم في الرعاية الطبية بسبب تباين مراكزهم الأدبية أو الاجتماعية أو شعوره الشخصي نحوهم.
البعد عن محقرات الأمور وصغائرها: لا يليق بالطبيب أن يخوض في أمورٍ مستقبحة شرعاً أو مستهجنة اجتماعياً، كالنميمة والهمز واللمز والهذر وكثرة الكلام والجدل، وكثرة الضحك، والتلفظ بالألفاظ غير المقبولة في المجتمع، وخاصة أثناء أدائه لواجبه، كما يحسن بالطبيب أن يتجنب ما يُسمّى بخوارم المروءة وإن كانت مما لم يحرم شرعا، كمضغ العلكة أثناء عمله، أو قصّات الشعر الغريبة، أو لبس ما يُستغرب من أنواع الملابس الشاذة اجتماعياً وإن كانت مقبولة في بلدان أخرى، أو الإهمال في مظهره.
وفي الختام أذكر بأن الطبيب الذي يفتقد القيم الأخلاقية في حياته الخاصة لا يستطيع افتعالها في نشاطه المهني ولو كان من حملة أعلى المؤهلات العلمية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد.
من المراجع: 1. أخلاقيات مهنة الطب، الهيئة السعودية للتخصصات الطبية، الرياض، 1424هـ. 2. الطبيب أدبه وفقهه، د. زهير أحمد السباعي ود. محمد علي البار، دار القلم، دمشق، ودار الشامية، بيروت، ط1، 1413هـ. 3. هذه أخلاقنا، محمود محمد الخزندار، دار طيبة، الرياض، ط1، 1416هـ.