الحمدُ لله يسَّـر كــُـلا ًّ لِـما خــُـلِـقَ له و جَـعَـل الأعمالَ بالخواتيم، خـَـرَج موسى خائفا يترقـَّـبُ فعاد بأهله و هـــو الـْـكـَــلِـيْم، و ذهب ذو النـُّون ِ مـُـغاضِـبا ً فالتـَـقـَـمَـه الحوتُ و هو مـُـلِـيْم، و نشَـأ محمدٌ عليه و عليهم الصلاة والسلام يتيما فكان الفضل ُ لذلك اليتيم، و كل ذلك بتقدير العزيز العليم.
الحمدُ لله، فجـَّـرَ الماء من الجـُـلـْمود، و أخرجَ الثــَّـمَـرَ مِـن يابـِـس ِ الـْـعُـود، و هو الكريم الودود.
و أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الودود ذو العرش ِ المجيدُ فعَّـالٌ لما يُريد، شهادةَ راج ٍ للحـُـسنى و المزيد.
و أشهدُ أنَّ محمدا ً عبده و رسوله ذو المقام المحمود و الحَوض ِ المَورود، صلوات الله و سلامه عليه مــــا أوْرَقَ عُــــــود، و قـَهْـقـَهـَـتْ رُعود، وامتلأت سُدود، و لــُـبـِـسَت بُرود، و أ ُبرِمَتْ عـُـقــُـود، و صَـدَقـَـتْ وُعُـود، و خـَـفـَـقـَـتْ بُـنـُـود،
و آلــِـــهِ و صحبـِـهِ و مَنْ سَـلــَـــــــكْ طـريـقـهـم ما دار نجمٌ فـِــيْ فـَـلــَـكْ
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تـُــقاته و لا تموتـُـنّ إلا و أنتم مسلمون"
أما بعـــد،
فيا معشرَ الأخيار، غيثَ الأمَّةِ المِدْرار، و ليثـَـها الكـَـرَّار، مِلح الأرض ِ إذا فـَـسَدَت، و عَمـَار الدنيا إذا خـَـرِبَتْ، مَنْ أحسَبُ أنكم مِنَ المَعْـنِـيِّـيْن بما صَدَحَت به و شـَـدَت الحناجر:
طـُـبـِـعوا على كرَم النفوس جـِـبـِـلـَّــة ً مـَـوروثة ً فيهم تـُـراثا ً مـُـتـْـلـَــدا
لو أنهم عَمـَـدوا إلى فِـعْـــل الخـَـنـــــا لأبَـتْ طِــبـاعُ نـفوسِهم أنْ تَعْمَـدا
حـُـيِّـيْتـُـم ثـُـمّ حـُـيِّـيْتـُـم، بتحيةٍ مباركةٍ فِطـْريةٍ تـَـبـْـهـَـرُ الألباب، و تـُـزري بمَـعْـسول الرُّضاب، فالسلام عليكم و رحمة الله و بركاته. سلامٌ أرَقُّ من نسمات السَّــحَـر، و ألطفُ من الطـَّـلِّ على الزَّهــَـر،
سلامٌ كـمـــــاءِ الوردِ دِيْـفَ بـعَـنـْـبَــــرِ و كالمِـسك مسحوقا ً بخَدٍّ مـُـعَـصْـفـَـرِ
حيَّـاكم الله و أحياكم، و هداكم و هدى بكم و يسَّـر الهـُـدى لكم. زوَّدكم ربِّي بزاد التقوى، نجَّاكمُ قـَـبْـلَ حُـلول ِ البَلـْـوى،
يا ربِّ وفــِّـقــْـنــَـا و كـُـلَّ خيرِ هَبْنا، وعنـَّـا نــَـحِّ كـُـلَّ ضَيْرِ
و امنـُـنْ علينا بقضاء الحِـوَج ِ و كـُـلَّ شِــدَّةٍ و كـَـرْبٍ فرِّج ِ
معشرَ الإخـْـوة،
ما أكادُ أ ُعْطي موعِدا ً لأحَدٍ إلا و جرى بخاطري قولُ المـُـثـَـقــِّــبِ العـَـبْــدِيّ:
حسنٌ قـَـولُ نـَـعَـمْ مِـنْ بَـعْـدِ لا و قـَـبــِــيحٌ قـَـولُ لا بَعْدَ نـَـعَـمْ
إنّ لا بَـعـْـدَ نـَـعَـــمْ فاحِشـَــــة ٌ فـبـِـلا فابدأ إذا خِــفـْـتَ النـَّـدَمْ
و لِذا لما دعاني إخوتي تلكــَّـأتُ و تردَّدْت، و ماطـَـلـْـتُ ضعفا ً و أرْجَـأت، ثـُـمَّ وَعَـدْتُ و أخــَّـرت، حتى صار حال مَنْ دعاني: "أطـَـلـَّـتْ و ما أمْطـَـرَت".
أطـَـلـَّـتْ علينا منك يوما ًغمامـة ٌ أضاء لها برقٌ و أبْطا رَشاشُهــــــا
فلا غيمُها يـُـجلى فيَيْأسُ طامِــعٌ و لا غيثـُها يأتي فتـُرْوى عِطاشـُها
مع عِـلمي أن التـَّـأنـِّـيَ و عدم العجلة خيرٌ إلا في عمل الآخرة. و لكنه ضعفٌ و قلة بضاعة، اقترنت ببقايا جـِـبـِـلـَّـةٍ عربيةٍ مـُـجاهَــدَةٍ و غيرِ مـُـسـَـوَّغة، فالعربُ تتلذذ بالوعود إذا ضـُـمِــنت و لو تأخـَّـرَت. و لِذا كانوا يُسْـقـُـون الكـَـمـُّـون بالوعود يقولون غدا ً نسقيك وبعد غدٍ نكفيك، فزعموا أنه يخضرُّ و ينمو و يَرْبُــو على المواعيد. يقول قائلهم:
يا ليتني كنتُ كمـُّـونا بمزرعــةٍ إنْ فاتني السـَّـقـْيُ أغنتني المواعيدُ
و مِنْ أمثال ِ عَرَبِ الشــَّـام المَيْمون: "بالوعْدِ يا كــَـمــُّــون".
و كأني بمن دعاني يقول معاتبا:
لا تجعَلـَنـِّي ككمُّون ٍبمزرعـــةٍ إنْ فاتــــه الماءُ أغـْـنـَـتـْهُ المواعيدُ
فأقولُ له: على رِسْـلِك و لا تـُـنـْـكِرْ أصلك، فالوعدُ عند العرب تلذذ ٌ و تذوُّق، والإنجاز طعام. و ليس من صُـدِم بالطعام فقـُـرِّبَ له فجأةً من دون سابق موعدٍ في اللذة كمن وُعِدَ به، ثــُـمَّ ضـُـمِـنَ له، ثــُـمَّ انتظرَ فوجدَ رائحتـَـه فسال لها لـُـعابُه، فتمَـطـَّـقَ به و تطعـَّـمَه، ثــُـمَّ قـُـرِّبَ إليه فتذوَّقـهُ، و إنْ تأخــَّــر.
فالوعد أحسنُ ما يكونُ إذا تـَـقدَّمهُ ضمان
و لعلكم تطـعَّـمْـتـُـم و تمطـَّـقتـُم و سال لـُـعابـُـكم، و جاء وقتُ الإنجاز و قـُـرِّبَـتِ المائدة للفائدة.
قد طيَّـبَ الأفواهَ طِـيْبُ غـِـذائهــا مِنْ أجْـــــل ِذا تجـِـدُ الثـُّـغورَ عِذابا
زهراءُ أحلى في الفؤاد من المُنى و ألــــذ ُّ من ريق الأحبة في الفـَـــم ِ
إنـَّـها....
عـَــرْفُ الـــْــعــَـبـِــيْــــر في تـواضــُـــع ِ الــْـــبــَــشــِــيْــر ِ الــنــَّـــذيــر
عليه صلوات وسلام الـْـعـَــليِّ الكبير.
منْ شمَّ عـَرْفا لأخلاق النـَّبيِّ يقــُـــلْ لا المِـسْـكُ مِسْـكٌ و لا الكافور كافورُ
عَـرْفٌ فحواهُ:
"لقد كان لكم في رسول الله أ ُسْوة"
إنْ لـَمْ يكـُن ِ الماءُ مِـنْ نـَهْـر ِ رسالته فلا تــَـشـْـربْ، إنْ لـَـمْ يكـُـن ِ الفـَـرَسُ مـُـسـوَّما على علامته فلا تـَركـَبْ.
عـَـودا ً إلى نبعه الصافي و روضته نـجْـني ثمار المعالي مِنْ رَوابــــيــهِ
تـَـحْيا القلــوب إذا عادَتْ لمنبعهــــا و الرَّوضُ يُـزهِرُ إنْ غيثٌ هَمَا فيــهِ
------------------------------------------------------------
عَـرْفٌ يقول:
ما أضـْـيَعَ الياقوتَ في جـِـيْدِ الأ َمَة
إذا الأخلاقُ بعدَ العِـــلم ِ ســــــاءتْ فكـُـلُّ الجَهْـل ِ في فصل ٍ و بابِ
و هو مَعَ ذا عَـرْفٌ يقول لكل ذمِـيم ٍ لـَـئِـيْم ٍ شـَـتِـيم ٍ يـَـسْخـَـرُ بالنبيِّ الكريم:
قد ارتـقـيتَ مـُـرْتـَــقــا ً صعْـبـا فـمـــا قـــــد قـُـلـْـتَ فيهِ لا يُجاوز الفـَـما
شَـبـَّـهْتُ ما قد قـُـلـْـتـَـهُ نـَـفـْـخَ الـْـوَزَغ في النارِ إذ أوحى الإلهُ لها ابْرُدي
فالصَّـقرُ في العلياء يا مِسْخارُ لا يَهابُ كلبة ً أو قـُـبَّـرَة
------------------------------------------------------------
عَـرْفٌ يقول:
إننا أمَّة تمضي وراءَ دليل ٍ بصيرٍ بالسـُّـبُـل... و هو خاتـَمُ الرُّسُـل.
مَنْ وطِئَ برسالته الحصباء فكانت إثـْـمِـدا ً يكتحِـلُ به السُّـعداء. و أمَّـته هي الأمَّة الأخيرة، إن تنكـَّـبَتْ طريقـَهُ هلـَـكـَـتْ و غرِقـَـتِ السفينة ُ التي تـَحمِـلُ الذ َّخيرة.
فلا يُـرتـَـجى نصرٌ و لا كشْفُ عِـلـَّـةٍ إذا جــــاء داءٌ مِنْ مكـــان ِ دواءِ
إلى الماءِ يسعى مَنْ يَغـَـصُّ بـِـرِيْـقِـهِ فقـُـل أين يسعى مَنْ يَغـَـصُّ بماءِ
------------------------------------------------------------
و هو مَعَ ذا عَـرْفٌ يقول:
مَنْ تـَـجَـرَّدَ مِنْ لباس أخلاق الإسلام أمسى سَوْءَةً في خِزي ٍ و إسفافٍ و تطفيف، و أصبحَ نـَـكِرةً بعدَ تعريف.
فلا الطيورُ على أغصانه صَـدحَـتْ و وردُهُ مالـَـهُ في الغصن إيْــراق ُ
وحينها...
لا العِـيدُ عيدٌ و لا الإشراقُ إشراقُ و لا الصباحُ بوجه الأرض برَّاقُ
------------------------------------------------------------
عَـرْفٌ يقول:
إعْرِفِ المرءَ مِنْ فعله لا مِنْ كلامه، و مِنْ عينِهِ لا مِنْ لسانِه،
إنْ غرَّك القولُ فانظـُـرْ فِـعْـلَ قائلهِ فالفعلُ يجلو الذي بالزيفِ يَسْـتـَتِـرُ
و ما أنا معشرَ الإخوة حين أتكلم عن خـُـلـُـقه صلى الله عليه و سلم إلا كمن يحاول جمعَ البحر في كأس، و حصرَ الدنيا في صندوق، و جمعَ المـُـحيطِ في كفّ، وهذا ما لا يكون...
هيهاتَ أ ُوْفِ القولَ في خير الوَرَى مِنْ بعدِ ما صَدَعَـتْ بمدح ٍ "نونُ"
لكنْ أ ُعيدُ القول فيه لـَـعَـــلـَّـــــــني مِـنْ تـابـِـعِــيـه الفائــزيــنَ أكــونُ
و اللهَ أرجو المَنَّ بالإخلاص ِ فإنه الطريق ُ للخـــلاص ِ
------------------------------------------------------------
عـَــرْفُ الـــْــعــَـبـِــيْــــر في تـواضــُـــع ِ الــْـــبــَــشــِــيْــر ِ الــنــَّـــذيــر
تواضُعُهُ... ما تواضُعُه،
أ ُقـْـسِمُ ببارئ النـَّـسـَـم، و خالق ِ الخـَـلـْـق ِ مِنْ عَـدَم، إنَّ تواضُـعَـهُ لا يُجارى و لا يُـبارى.
لـَمْ ترَ العـينُ لـــه مِثـْـــــــلا ً و لا خـَـطـَـرَتْ أوصـافـُـهُ في أ ُذ ُنـَـيْـن ِ
لا يَرى له فضلا ً على أحَد، و له الفضلُ على كـُـلِّ أحَد، و هو خيرٌ مِنْ كـُـلِّ أحَـد، قدِ انكسرَ قلبُهُ للهِ الواحد الأحَد. فخَضَعَ للحق و انقاد له و قـَـبـِـلـَـهُ مِنْ مَنْ قاله صغيرا ً أو كبيرا، شريفا ً أو وضيعا، حُرًّا أو عبدا، ذكـَـرا ً أو أنثى.
صـلـَّـى الظـُّهْرَ أو العصرَ يوما ً ركعتين كما في الصحيح ثـُمَّ سلـَّـم، و شعرَ بنقص ٍ و خلل ٍ لا يدري ما سببه، فقام لخشبةٍ معروضة ً في المسجد فاتـَّـكـَأ عليها و كأنه غضبان قد وضع يدَه اليُمنى على اليُسرى وشبــَّـكَ بينَ أصابعه، لأنَّ نفسـَـهُ الكبيرةَ تـُـحِـسُّ بأنَّ هناك شيئا لم تستكمِـلـْه. و لِـهَـيْـبَـتِهِ صلى الله عليه و سلم لم يَجْرُؤ أحدٌ أنْ يـُـفاتِحَه، حتى أبو بكر ٍ و عُمَرُ أكابرُ صحابته. فقام ذو اليدين و قطع ذلك الصمتَ قائلا: يا رسولَ الله، أنسيتَ أمْ قـُـصِـرتِ الصلاة؟ فقالَ بناءً على ظنـِّـهِ: "لمْ أنـْـسَ و لم تـُـقـْـصَرْ" فقال ذو اليدين ِ: بل نسيتَ، فقال صلى الله عليه و سلم مُتـثــبِّـتا: "أكـَـمَا يقولُ ذو اليدين؟" قال الصحابة ُ: نـَـعَـمْ. فقام و صلى ما تـَرَكَ و سَجَدَ للسـَّـهـْـو بعد أنْ سلـَّـم، و كأنّ شيئا ً لم يكن.
خــُـلـُـقٌ عظيم، زكـَّـاه العليُّ العظيم:
"و إنك لــَـعـَــلــَـى خـُـلــُــق ٍ عظيم"
جَعَـلَ كبيرَ المسلمين بمنزلةِ أبيه، و صغيرَهم بمنزلةِ ابنِه، و نظيرَهُ في السِّـنِّ بمنزلةِ أخيه. فوقـَّـرَ الكبير، و رحِـمَ الصغير، و أعْطـَى كــُـلَّ ذي حقٍّ حقــَّـه.
فـلـمْ يكـُنْ أحَدٌ يـُـلهـِـيْهِ عن أحــــــدٍ كأنــَّـه والــــدٌ و الــنـَّـاسُ أطــــفــالُ
و كيف لا يكون كذلك و قد أنزلَ اللهُ عليه فيما أنزل أنَّ الجنــَّـة َ دارُ المتواضعين:
"تلك الدار الآخرة نجعلـُـها للذين لا يريدون عـُـلـُـوًّا في الأرض و لا فسادا، و العاقبة للمتقين"
و أمَـرَه بالتواضع للمؤمنين:
"و اخفِـض جناحَـكَ للمؤمنين"
و أوحى إليه أنْ تواضعوا حتى لا يَبغِيَ أحدٌ على أحد و لا يفخـَـرَ أحدٌ على أحد.
فهو سيِّدُ المتواضعين، بل سيـِّـدُ ولدِ آدمَ أجمعين، قد أخـَـذ َ بزِمَام ِ هذا الخـُـلـُـق ِ العظيم. فهو أحـق ُّ مَنْ فيه قيل:
قـُـسـِـمَ التواضعُ في الأنام جميعِـهـِم فــــــذهبـــتَ أنتَ فقــُـدْتـَهُ بزمامــهِ
و ذهبتَ أنتَ برأسهِ و سنامِهِ
كان يأتي ضعفاءَ المسلمين يزورهم، يعُـودُ مرضاهم، يشهدُ جنائزَهم، يتعهـَّـدُ حاضِرَهم، و يسألُ عَنْ مَنْ غابَ منهم.
لما وصل (تـَـبُـوك) سأل: "أين كعبُ ابن مالك؟"،
و لما رأى رجلا عن بـُـعـْـدٍ قال: "كـُـنْ أبا خيثمة"، فكان.
و بـَعْدَ إحدى غـَـزَواته فـَـقــَـدَ أحَـدَ أصحابـِه مِنْ مَنْ لا يأبَهُ الناسُ له فقال: "هل تفقدون مِنْ أحَد؟" قالوا: فـُلانا و فـُلانا و فـُلانا، قال: "هل تفقدون مِنْ أحَد؟" قالوا: لا، قال: "لكنـِّـي أفقِدُ جــُـلــَـيْــبـِــيـْـبا ً فاطـلـُـبوه". فطلبوه فوجدوه قد قـَـتـَـلَ سبعة ً مِنَ المشركين ثـُمَّ قتلوه، فقال: "هذا مِـنـِّـي و أنا مِـنـْـه" ثم وضَـعـَـهُ على ساعـِـدَيْهِ حتى أدخـَـلــَـهُ قـبرَه.
تواضُــعٌ قد شــــــاعَ في الـــبـــلادِ و ذاعَ في الحـَـــضْرِ و في البـَوادي
كذا كان مع أصحابه، يشفـَعُ لهم، يقضي حوائجـَـهم، يتخوَّلــُـهم بالموعظة، يعفو عَنْ مُسيئهم، يقضي ديونـَهم، يـُـفـَـرِّجُ كـُـرُبَهم، يـُـعلــِّـمُ جاهلـَهم، يُطعِمُ جائعَهم، يَكسُو عاريـَـهم، يـُـسـلـِّـمُ على صبيانهم، يمسحُ على رؤوسهم، يُـداعِبُهم، يـُـجْــلسِهُم في حـِـجْــره، يُـحـَـنـِّـكـُـهُـم، يدعو لهم، يـُـدْخِلُ السرورَ عليهم.
لا يحسِبُ جليسُه أنَّ حدا ً أكرمُ عليه منه، ما حدَّثــَه أحدٌ إلا مالَ بأ ُذ ُنِه إليه، ما صافـَـحَ أحدا ً فيرسـِـلُ يَدَهُ حتى يـُـرسِلـَها مُـقابـِـلـُه، يـُـكـْـرِمُ من دخلَ عليه، و رُبَّمَا بسط له ثوبَه و آثرَهُ بوسادته، يـُـجيبُ الدعوة، و يَـقـْـبَـلُ الهديَّـة و يـُـثِـيْبُ عليها، و إذا رَدَّها أبْدى سَبَبَ ردِّها تطييبا ً لخاطِرِ مَنْ أهْـداها. و يقول في تواضع ِ النـُّـبُـوَّة:
"لو دُعِـيتُ إلى كــُـراع ٍ لأجَبْتُ، و لو أ ُهدِيَ إليَّ ذراعٌ لــَـقــَـبـِـلــْـت"
يـُـجالِـسُ الفــُـقراءَ و المساكين، يؤاكِـلــُـهُم و يقول:
"أبْـغونِـي ضعفاءَكم، إنما تـُـنصرون و تـُـرزقون بضعفائكم".
و يُعلنـُها في إخباتٍ و تواضع:
"اللهمَّ أحيــِـني مسكينا، وأمِـتــْــنِـي مِـسكينا، و احشـُـرني في زُمـْــرة المساكين".
تواضَـــعَ لمَّا زاده اللهُ رِفــْـعــــــة ً كذاك جليلُ القـَـدْرِ جــَــمُّ التواضـُـع ِ
لـِـهَـدْيـِـهِ انـْـهَـضْ فهـو بالمتابعــة الخـَـبـَــرُ الجُـزْءُ الـمُـتـِـمُّ الـفـائــــدَة
عــلــيـه صلـَّـى اللهُ ثـُمَّ سلــَّـمـــــا و آلـهِ و صـَـحْـبـِهِ و تــابـِـع ٍ سَــمَا
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلم أعظمَ الناس ِ تواضُعا...
شـَـمَخــَـتْ رُتــْـبَـتــُهُ فوقَ الثـُـرَيــَّـا و هو لـــمْ يشمخ ْ بأنفِ الكبريــــاءِ
لا تـُـغـْـلقُ دونـَـه الأبواب، و لا يقومُ دونــَـه الحـُـجــَّـاب، و لا يـُـغدى عليه بالجــِـفان ِ و لا يــُـراح، بَارِزٌ مَنْ أرادَ أنْ يلقاهُ لــقِــيـَـه.
أتاهُ (عـَـدِيُّ ابنُ حاتم ٍ) في مسجده وقد طوَّف الأرضَ هربا ً حتى وضعَ يدَه في يدِه، و في ذِهنِهِ تـَـصــَـوُّرٌ أنــَّـهُ صلى الله عليه و سلـَّم إمـّـا مـَـلِـكٌ أو نبيّ، لأنّ تبـَـعـِـيـَّـة َ الناس لا تكون لأحدٍ في ذهنه إلا بهذين العاملين. قال عـَـدِيُّ: فانطـَـلـَـقَ بي، و واللهِ إنه لعامِدٌ بي بيتــَـه، إذِ استوقفـَـتـْـهُ امرأة ٌ ضعيفة ٌ كبيرة ُ الســِّـنِّ معها ابنـُها، فوقفَ لها طويلا تـُـكلمُه في حاجتها. فقلتُ في نفسي: واللهِ ما هذا بمــَــلـِـك. قال: ثم أخذ بيدِيْ وانطلقَ بي إلى بيته و قال: "اجلس" و ألقى عليَّ وسادة من أدَم ٍ محشوّة ً بـِـلـِـيْـف و قال: "خذها فاجلِـسْ عليها" قال: فجلستُ عليها و هو على الأرض، فقلتُ في نفسي: واللهِ ما هذا بمــَــلـِـك.
و في تواضـُـع ِ النـُّـبـُـوَّة دعاه إلى الإسلام: "أسْـلـِـمْ يا عـَـدِيّ... لعلــَّـه إنما يمنعـُـك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله؟ وَايْمُ الله ليوشِكــَـنَّ أنْ يفيضَ المالُ بأيديهم حتى لا يوجدَ مَنْ يأخـُـذ ُه. لعلــَّـه إنما يمنعُـك ما ترى مِنْ قـِـلــَّـةِ عدد المسلمين و كثرة عدوِّهم؟ وَايْمُ الله إنْ طالتْ بك حياة ٌ لتـَـرَيـَـنَّ الضَّـعـِـينـَة َ تـَخرجُ من الحِــيْرةِ إلى بيت الله لا تخشى إلا الله. لعلــَّـه إنما يمنعك ما ترى أنَّ المـُـلــْـكَ لغيرهم؟ وَايْمُ الله لئنْ طالتْ بك حياة ٌ لتـَـرَيـَـنَّ قــُــصـُـورَ كــِــسـْــرى قد فـُـتِـحَـــتْ و أ ُنفـِـقـَـتْ كنوزُها في سبيل الله".
جَــبـَـلُ الــثــَّــلـْـج ِ تلاشى حينــمـــا رَنــَــتِ الشـمـسُ بعينيـهـا و ذاب
زالتِ الغـِـشاوةُ عن عينيه، و سقطتْ حُجُبُ الجاهليَّــةِ عنه،
و الليلُ ولـَّـى و الظــَّـــلامُ تـــَــبــدَّدا و الصـُّـبح أشرقَ و الضياءُ تـَجدّدا
شهــِــدَ الشــَّــهادتين، و رأى بأمِّ عينه ما أخبره به رسول الله، و أقسـَـمَ لـَـيـَـرَيَــنَّ ما لم يرَهُ بــعْـدُ إيمانا ً بقول رسول الله صلـَّـى الله عليه و سلـَّـم. حالــُـه:
و إنْ تراكـمَـتِ الظـَّلـْماءُ في طـُـرُقي فلِيْ مِنَ الوَحْي ِ في الأحداثِ كشَّافُ
مـُـعلِـنا ً أنَّ أعظمَ عامِل ٍ لاجتذابه إلى الإسلام هو تواضعُ رسول ِ الله صلـَّـى الله عليه و سلـَّـمَ الجَـمّ... أيـُّـها الشــُّــمّ.
"لقد كان لكم في رسول الله أ ُسْــوَة"
لـقد أكمل اللهُ الهــُـدى برسولـِــــــهِ فكلُّ الهــُـدى ما بين ذِكـْـر ٍ و سـُـنـَّـةِ
صلــَّــى عـلـــيهِ اللهُ ذو الجـــــــلال ِ و صَــحْــبــِـهِ و حِــزبـِــــــــهِ و الآل ِ
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلم أشدَّ الناس تواضعا...
تــَـواضُعُهُ أعْلاهُ ثـُمَّ ارتـَـقــَـتْ بـه نـُـبُـوَّتــُـهُ فِـيْ الباذِخـَـاتِ السَّـوامِكِ
اختارَ أنْ يكونَ عبدا ً رسُولا عنْ أنْ يكونَ مَـلِـكـا ً نــَـبـِـيـًّا، و يكفيه شرفا ً قول ربـِّـه:
"سبحان الذي أسرى بعبده"
و لِعِظـَـم ِ تواضُعِهِ نـَـهَـى عنْ إطــْــرائِهِ و رَفـْـعِـهِ فـَـوْقَ مَـنـْـزِلــَـتِـه
"لا تــُـطـْـروني كما أطـْـرَتِ النصارى ابْنَ مريم، إنما أنا عبد ٌ فقولوا عبدُ اللهِ و رسولـُه"
"ما أ ُحِـبُّ أنْ تـَـرْفعونِي فوقَ مَـنـْـزِلــَـتِـيَ التي أنـْـزَلـَـنِـيْـها الله"
لا يـَـقــُـومُ أصْحَـابُه لهُ إذا رَأوه لِـمَا يَـعـْـلـَـمُـونَ مِنْ كـَـرَاهِـيَـتِـهِ لــَـه.
و لمَّا قال له رجلٌ: يا خـَـيْـرَ البَرِيـَّـة، قال: "ذاك إبراهيم".
تــَـراهُ بَـيْـنَ أصحابـِهِ دُونَ أنْ يَـتـَـمَـيَّـزَ عليهم، حتى إنَّ الدَّاخِـلَ لا يَعْرِفـُـهُ و لا يُـمَـيِّـزُهُ مِنْ بين ِ أصحابـِه.
لمـَّـا قـَـرُبَ مِنَ الـْـمَـدِيْـنــَـةِ فِـيْ هِـجْـرَتِـهِ لــَـمْ يـُـمَـيِّـزُوا بَـيْـنـَـهُ و بَـيْـنَ أبي بكر ٍ حتى أصابتـْهُ الشـَّـمْـسُ فقامَ أبو بكر ٍ يُـظـِـلــُّه، فعرفوا أنـَّـهُ رسول الله صلى الله عليه و سلـَّـم.
يـَـدخـُـلُ الأعرابيُّ المسجدَ و الرسول صلى الله عليه و سلـَّـم بينَ أصحابه فيقول: "أيــُّـكـُـمْ مـُـحمــَّــد؟".
كانَ مِـنَ التــَّــواضـُـع ِ للهِ على حال ٍ لـَـمْ يـَـكــُـنْ عليه حالُ أحَـدٍ قــَـطـّ...
سَجَـدَ في الماء و الطين حتى رأوا أثــَـرَ الطــِّـين ِ في جبهته،
و باعَ و اشترى، و حَـمـَـلَ متاعَهُ دون خـَـدَم ٍ و لا حَـشـَـم و لـَـمْ يَــفـْــقِــدْ هَـيْــبَــتــَـه.
متواضع ٌ و النـَّـجْــمُ دُونَ مَـحَـلــِّــهِ و كـَـذا تـكونُ شـَـمَـائِـلُ الأمْــجَــــادِ
صلـَّـى عــَـلـَـيْــهِ بــَـارِئُ الـْـعِــبـَـادِ مــــــا جــَــرَتِ الأقــْــلامُ بالـْـمـِــدادِ
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلم َ مثالَ تواضع ٍ لا نظيرَ له...
ما رأى الــرَّاؤونَ خــُـلـْـقا ً مِــثـلـهُ خـُــلـُـقــا ً أكــْـمَــلـَه البَرُّ الـــرؤوفُ
لا يَأنـَـفُ أنْ يـَـمْــشِـيَ مَعَ الأرْمـَـلـَـةِ و المِـسْــكين ِ و العَـبْـدِ حتـَّـى يَـقـْـضِـيَ لـِـكــُـلٍّ حَـاجَـتــَـه.
في صحيح مسلم ٍ عن أنس رضي الله عنه أنّ امرأةً كان فيْ عقلها شيء قالت: "يا رسولَ الله، إنّ ليْ إليك حاجَة"، فقام يـُـكـْـنِـيْـها و يـُـكـْـرِمُها و يـُـشـْـفِـقُ عليها
أ ُكــْــنـِـيْــهِ حين َ أ ُناديـهِ لأ ُكـْـرِمــَــهُ و لا أ ُلــَــقــِّــبـُـهُ و السَّـوْءَةُ اللــَّــقـَــبُ
كذاك أ ُدِّبْـتُ حتى صار مِنْ خـُـلــُــقي أنــِّـيْ وَجَــدْتُ مِـلاكُ الشـِّـيْـمَــةِ الأدَبُ
يقول: "يا أمّ فلان، انظـُـري أيَّ السِّـكـَـكِ شِـئـْـتِـي حـتـَّـى أقـْـضِــيَ لــَـكِ حاجَـتـَـكِ"، فخـَـلا مَـعَـها فِيْ بَـعْـض ِ الطـُّـرُق ِ حتى فــَـرَغــَـتْ مِــنْ حاجـَـتـِـها.
تـِـلـْـكـُـمْ أيــادِيـْـــــهِ و أخـْـلاقــُــــــــهُ ظِــلٌّ ظــَـلِــيْــلٌ و مَـحـَـلٌّ رَفِــيْـــــــــع
كان إذا صلــَّـى الـْـغـَـداة جاءَ خـَــدَمُ المدينةِ بآنـِـيَـتِـهـِـمْ فيها الماء، فما يُـؤتـَـى بإناءٍ إلا غـَـمَـسَ يَـدَهُ فيه و لـَـوْ جاؤوهُ فِيْ الغـَـدَاةِ الباردة.
خُـــلـُــقٌ مِنْ ذ َوْبِ شــَـهْـــــدٍ شِـــيْـــبَ بـالـْـمَــاءِ الـْـفـُـراتِ
تـأمـَّـلْ غاية َ التواضع، حين تأتيه امرأة ٌ لا رجـُـل، أ َمَـة ٌ لا حـُـرَّة، و تأخــُـذ ُ بـِـيَـدِهِ في إشارة ٍ إلى غاية التـَّـصَـرُّفِ فيه حتى لو كانت حاجة هذه الأ َمَـةِ خارجَ المدينة. في الصحيح عن أنس ٍ قال: "إنْ كانتِ الأ َمـَـة ُ من إماءِ المدينةِ لــَــتــَـأ خــُـذ ُ بـِـيـَـدِ رسول الله صلى اللهُ عليه و سلـَّـمَ فتنطـَـلــِــقُ به حَـيْـثُ شاءتْ".
يـَـتــَّـقِــيْ الـكِـبْـرياءَ و يَدْريْ بـِـأنْ لـَمْ يـُــؤْثــِـــرِ الكِـبْـرِياءَ إلا الـْـوَضِـيْـــعُ
خــُـلــُـقٌ عظيم، زكــَّــاه الـْـعَـلِـيُّ العظيم:
"و إنك لعلى خــُـلــُـق ٍ عظيم"
صـَــلــَّـى عـلـيـهِ بارئُ الـْـعِــبــــــــادِ ما أمْـطــَـرَتْ سُــحْـبٌ و سَـالَ وادي
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلم َ إمامَ تواضـُـع بلا مـُـنازع...
فـــتـلـك براهــــيــــــنُ أخلاقــِــــــهِ كـــشـــمس الضُّحى إذ بَـدَت سافِـرَة
تواضَعَ في بيتـِـهِ فكان في خِدْمـَـةِ أهْــلـِـه و هو قادِرٌ على أنْ يستعين بالخـَـدَم ِ لِـخِـدْمـَـتِـه.
لمـَّـا سـُـئلـَـتْ عائشة ُ رضي الله عنها ما كان النبيُّ صلى الله عليه و سلــَّـمَ يصنـعُ في بيته قالت: "كان يكونُ في مـِـهنـَـةِ أهلِـهِ، فإذا حَضَرَتِ الصلاة قام إلى الصلاة".
كان بـَـشـَـرا ً مِنَ البَـشـَـر، يـَـخِــيْـطـُ ثوبَه، و يَخـْصـِـفُ نـَـعْـلـَـه، و يخدِمُ نـَـفـْـسَـه، و يحلـِـبُ شاتـَـه، و يـَـعـْـلِفُ دابــَّـته و يــَـفـْـلي ثوبَه و يعملُ ما يَعْـمَـلُ الرِّجالُ في بيوتهم.
يؤتى بالتــَّـمْـرِ فــَـيُـفـَـتـِّـشـُـهُ و يُخـْـرِجُ السُّـوسَ مِـنـْـهُ ثــُـمَّ يأكـُـلـُـه.
يـُـصْغِـيْ الإناءَ للهـِـرَّةِ لِـتـَـشْــرَبَ ثـُـمَّ يَـتـَـوَضَّـأ بـِـفـَـضْـلِـها.
يجلسُ على الأرض، و يأكـُـلُ على الأرض، و يـَـلعــَـقُ أصابـِـعَـه، و يقـُـولُ آكـُـلُ كما يأكلُ العَـبْـد، و أجـْـلِـسُ كما يـَـجلِـسُ العَـبْـد، و هو خـَـيْـرُ أهْـل ِ الأرض ِ مِنْ حـُـرٍّ و عَـبْـد.
لم يكـُـنْ له فـُـرُشٌ وثيرة أو مجالسُ زاهية، فكان يجلسُ على الأرض، و ينامُ على الحَصِـير. وِسَادَتـُهُ التي يَـتــَّــكِـأ ُ عليها مـِـنْ جـِـلـْـدٍ محْـشــُــوٍّ بـِـلـِـيف، و فِـراشـُـهُ الذي يَـنــَـامُ عليه كذلِـكْ، و رُبـَّـما نامَ على الحَـصِـير ِ فأثــَّـرَ فِـيْ جَـنـْـبـِـه.
أتاهُ عُـمـَـرُ يوما ً و قد نامَ على حَـصِــير ٍ أثــَّـرَ في جَـنـْـبـِـه فهَـمَــلـَـتْ عَـيْـناه، و جَـثــَى عَـلى رُكـْـبَـتـَـيْـهِ و قال: صَـفـْـوَة ُ الله مِنْ خـَـلــْــقِـهِ فيما أرى و فارسُ و الرُّمُ يَـعْـبَـثـونَ بالدُّنـْـيا، أ ُدْعُ اللهَ يا رسولَ الله، فاحْـمَـرَّ وَجْهـُـه و قال: "أوَفِـيْ هذا يابن الخـَـطــَّــاب؟! أولئك قومٌ عــُـجـِّـلــَـتْ لهم طـيِّـباتـُـهُـم، أمَـا تـَـرْضَى أنْ تكونَ لهم الدُّنيا و لنا الآخِـرَة".
فــَـذا هـَـمٌّ سَمَا فـَـوْقَ الـسَّـمَـاءِ
أبْـيَــاتــُـهُ ما أبْـيَــاتــُـه...
أبياتٌ متواضعة، تـِـسْـعـَـة ُ أبْــيـَـاتٍ مِنْ جَرِيْـدٍ مـُـطـَـيـَّـن ٍ بـِـطِـيْن ٍ و حِـجَـارَةٍ مَـرْضـُـومَة، يـَـدْخـُـلُ الغـُـلامُ فينال السـَّـقـْـفَ بـِـيَـدِه.
و قــَـبـِــيْــحٌ بالوَضِــيْـع ِ الـْـكِـبْرُ لـكِـنْ حَــسَـــنٌ خـَـفـْـضُ جناح ِ الكــُــبَـرَاءِ
يـَـلـْـبَـسُ الثــِّــيَـابَ المُــتواضِعَة َ النـَّـقِـيـَّـة َ النظيفة َعلى قـُـدْرَتِهِ على أنْ يَـلـْـبَسَ أفـْـخَـرَ و أحْسَـنَ الثــِّـيَابِ، فِيْ حِـيْـن ِ يَـقـْـسِمُ على أصحابـِـهِ أقـْـبـِـيَـةِ الدِّيْـباج ِ و خـَـيْـرَ الثــِّــيَابْ.
تـَواضَعَ حتى عَاشَ في ثـَـوبِ زاهِـــدٍ و أخمـُـصـُـهُ حَـلَّ السِّـمَاكَ و فـَرْقـَـدا
لمـَّـا حَجَّ حـَـجـَّـة َ الوداع معه مائة ألفٍ مـُـسـْـلـِـم يَـصْـدُرُونَ عَـنْ رَأيـِـهِ و أمْـرِهِ و نـَـهْـيـِـه، يـَـرْقـُـبُـونَ حَرَكاتِهِ و سَـكـَـنـَـاتِـهِ لـِـيَـقـْـتـَـدُوا به، كان في غايـَـةِ التــَّــواضـُـع ِ لله على رَحْـل ٍ رثٍّ عليه قـَـطِـيْـفـَـة ٌ لا تـُسَاوِيْ أربَـعَـة َ دراهِم. و يـَـقـُـولُ مَعَ ذلك:
"اللهم اجعله حَـجــًّـا لا رياءَ فيه و لا سـُـمْــعَـة"
لا يَـتـَـمَـيَّـزُ عَن ِ الحـُـجـَّـاج ِ بشيء، حتى إنـَّـهُ رَفـَـضَ أنْ يـُـخـَـصَّ بماءٍ دُوْنَ النــَّــاس ِ لـَـمْ تـُـجـْـعَــلْ فِـيْـهِ الأيْـدِي، و قال لعمـِّـهِ العبــَّـاس حين عَـرَضَ عليه ذلك: "لا حاجة َ لِـيْ فيه، أسـْـقوني مِنْ ما يشربُ الناس".
و يـُـرْدِفُ أسامة َ على دابـَّـتِه مـِـنْ عَـرَفة َ إلى مـُـزْدَلـِـفـَـة َ أمام الناس و هو مِنَ المـَـوالي.
و يَـقِـفُ لامرأةٍ مِنْ آحادِ الناس يستمعُ لها و يُـجيبُ عَنْ أسئلـَـتِـها.
لم يـُـصـْـرَفِ الناسُ عنه، فكلٌّ يَصِـلُ إليه و يقضِـي بـُـغـْـيـَـتـَـه.
لـَـمْ يَـتـْـرُكْ نـَـحْـرَ هَـدْيـِـهِ بـِـيَـدِه، إذ نـَـحـَرَ بيَدِه الشريفة ثلاثا ً و ستين بـَـدَنـَـة ثــُـمَّ أنابَ ابنَ عمـِّـه.
فـاللهُ إذ قسَــمَ الــتــَّـــواضـُـعَ فِـيْ الـْـوَرَى أوْفـَـى لـَهُ مِـنْ حَـــظـِّـهِ الـْـمِـكـْـيـــالَ
لــهُ الـصَّــلاة ُ و الـــــسَّــلامُ تـــَـتــْــــــرى ما شَرَى بَرْقٌ على طيبة َ أو أمِّ القـُرى
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلم َ فـَـرِيْــدا ً في تواضـُـعِـه...
لمْ تـَعْـرِفِ البَـشـَـرِيـَّـة ُ مِـثــْــلــَــهُ أ َحَـدا،
هــــــو الله كـَــمــِّــــــلَ أوصـــافـَــــــــــهُ و سَـــــمــَّــاهُ بـَــيـْـنَ الـْــوَرَى أحْــمَـــدا
لِـكـَـمَـال ِ تـَـواضُـعِـهِ يَـتـَـحَــدَّثُ عَـنْ رَعْـيـِـهِ الـْــغـَــنــَــمَ عَـلى أجْر ٍ زَهِـيْـد، و السَّــكِـيْـنــَـة ُ و الوقارُ فِيْ أهْـل ِ الـْـغـَـنــَـم كما أخْـبَـر.
ثبـَـتَ عنْ جابـِـر ٍ قال: كـُـنـَّـا مع النبيّ صلـَّـى الله عليه و سلمَ بـِــمَـرِّ الظـَّـهْـران و نـَـحْــنُ نــَــجْــنِـي الـْــكــَـبَـاث - و هو ثمرُ الأراك - فقال صلـَّـى الله عليه و سلم: "عليكم بالأسْوَدِ مِـنـْه" (و هو النـَّـاضِـجُ منه)، قالَ: فـقـُـلـْـنا: يا رسولَ الله كأنـَّـكَ رَعَـيْــتَ الغـَـنـَـم؟َ ففي تـَـواضُع ِ النـُّـبُـوَّة بَـيـَّـنَ أنـَّـهُ على أجزاءٍ مِنَ الدِّرْهَـم ِ رعاها و أنها مِـهْـنـَـة ٌ ارتضاها الله لأنبيائه، فقال: "و هل مِنْ نـَـبـِـيٍّ إلا رعاها! لقد كنتُ أرعاها على قـَـرارِيطـَ لأهل مَـكــَّــة".
لمــَّــا تناهى فِيْ العُــلـُـوِّ تـواضــُــعــــا ً للهِ زادَ اللهُ فِــــــــــيْ إعْـــــــــلائِــــــــهِ
رَعَـى الـْـغـَـنـَـم، ثــُــمَّ بَـعَــثــَـهُ اللهُ فرَعَى و رَبَّى الأ ُمَـم،
فبَـنـَى مَكانَ قـُـرَى الضَّـلال ِ مِنَ الهُدَى بـَـيْـتا ً عَــلا قـُــلـَــلَ الجـِـبَال ِ كـَـيَــذبُـل ِ
يَـبْـنيْ الرِّجَالَ و غـَيْـرُهُ يَـبْـنِـيْ القـُـرى شـَــتـَّــانَ بَـيْــنَ قـُـرىً و بَــيْــنَ رِجَـال ِ
صلــَّــى عـلـــيهِ اللهُ ذو الجـــــــلال ِ و صَــحْــبــِـهِ و حِــزبـِــــــــهِ و الآل ِ
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلمَ شامـَـة َ تواضـُـع و كوكبَ إخـْـبَات...
إنْ غارَ فهو من التـَّواضُـع ِ مـُـنـْجـِـدُ أو غـَــابَ فهو مِنَ المَهَــابـَـةِ شاهِـدُ
كانَ يَـوْمَ بـَـنِـيْ قـُـرَيْــضَــة َ عَـلـَـى حِـمَـار ٍ مَـخـْـطـُـوم ٍ بـِـحَـبْــل ٍ مِـنْ لـِـيْـف و عَـلـَـيْـهِ إكافٌ مِنْ لِـيْـف.
و لِـكمال ِ تواضُعِه لا يَـأنـَـفُ مِنْ أنْ يـُـرْدِفَ على دابـَّـتـِـهِ أحَـدا ً مَـعَـهُ إنْ أمْـكـَـنَ و إلا تـَـنـَـاوَبَ مَعَهُمْ فِـيْ الرُّكـُـوبِ عَـلـَـيْـها.
ثـَـبَـتَ أنـَّـه صلـَّـى الله عليه و سلمَ رَكِبَ حِمَارا ً يَوْما ًعَـلـَـيْهِ إكافٌ تحتـَـهُ قـَـطِـيْـفـَـة ٌ فـَـدَكـِـيـَّـة و أرْدَفَ وراءَه أسامة َ ابن زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما و هو يعـُـودُ سعـْـدَ ابنَ عـُـبَادَة رَضِـيَ اللهُ عنـْـه.
و أردَفَ صَـفـِـيَّـة َ يوما ً على دابـَّـتِهِ و الناسُ تنظـُـرُ إليه. بلْ إنَّ صَـفِـيـَّـة َ مِنْ قبـْـلُ لمـَّـا أ ُسِـرَتْ و اخـْـتارَتِ اللهَ و رسولـَهُ و أسْـلـَـمَـتْ، أعْـتـَـقــَـها و تزوَّجَـها و جَـعَـلَ عِـتـْـقـَـها مَـهْـرَها، ثـُـمَّ قـَـدَّمَ البَعِـيْـرَ لها لِـتـَـرْكــَـبَ عندما أرادَ المدينة و قـَـدَّمَ فـَـخِـذهُ لـِــتـَـضَـعَ رِجْـلـَـها عليها، فأعْـظـَـمَـتْ ذلك، و أبـَـتْ أنْ تـَـضـَـعَ قـَـدَمـَـها، ثـُـمَّ وَضَـعـَـتْ فـَـخِـذها على فـَـخِـذِهِ و رَكِـبـَـتْ.
فيالـَـلـَّه... إمرأة ٌ كانت مملوكة ً فأعتقها، و أبوها عدُوٌّ لدود يُـؤلـِّـبُ القبائلَ عليه و كذلك عـَـمُّــها، و زوجُها يَــكِــيْــدُ أشـَـدَّ الكيد له، و مَعَ ذا فإسلامُها قـَـطـَـعَ صِـلـَـتـَـها بأولئك و رَفــَـعَ قـَـدْرَها حتى وضع النبيُّ فـَـخِــذهُ لتتوصـَّـلَ بها إلى رُكـُـوبِ
البَـعِــيْـر، فـِـيْ خُــلـُـق ٍ زكــَّــاهُ الـْـعــَـلِـيُّ الكبير،
وافـَـى كــَــمــَــا وافــَـى النــَّـسِــيْـــــــــم بـِـطِـــيْـــــبِ أنـْــفـَـــاس ِ الـْـــعَــبـِـيْـــر
و ذا عبدُ الله ابنُ جعفر رضي الله عنهما يقول: كان النبيُّ صلـَّـى الله عليه و سلمَ إذا جاء مِنْ سَـفـَـر ٍ تـُـلـُـقـِّـيَ بصبيان ِ أهل ِ بيته، و جاء مِنْ سَـفـَـر ٍ فسُــبـِـقَ بـِـيْ إليه فحملني بـَـيْـنَ يديه ثـُـمَّ جـِـيءَ بأحَـدِ ابنـَيْ فاطمة حَـسَن ٍ أو حـُـسين فأرْدَفـَـهُ خـَـلـْـفـَـه، فدخلنا المدينة ثلاثة ً على دابــَّـة.
هــُـمْ في جَـبـِـين ِ الدَّهْر ِ أنـْصَعُ صفحةٍ لـَـمْ تـُـبـْـلِـها الأعْــــــــــوامُ والآبـــــادُ
و هاهو ابنُ مَسْـعودٍ يقول: كـُـنـَّـا يَومَ بَـدْر ٍ كـُـلُّ ثلاثةٍ على بَـعِـيْـر ٍ لِـقـِـلـَّـةِ الظــَّــهْـر، و كان أبو لـُــبَـابـَـة َ وعَـليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهما زمـِـيْـلـَـيْ رسول ِ اللهِ صلـَّـى الله عليه و سلمَ على دابـَّـتـِـه.
لـَـمْ يـُـفـْـرِدْ نفـْـسَـهُ بـراحِـلـَـةٍ مـُـسـْـتـَـقـِــلـَّـة، بلْ جَعـَـلَ نـَـفـْـسَـهُ كبـَـقـِــيـَّـةِ أفـْــرادِ جَـيْــشِـه. لـِـيُـعَـلـِّـمَـنا أنَّ الكمَالَ لـَـيْـسَ فيْ التـَّــرَفــُّـع ِ و التـَّـعَـالِـيْ على المـؤمنين، بل ِ الكمالُ الحقيقيُّ فِيْ خـَـفــْــض ِ الجناح ِ للمؤمنين.
إنَّ كــريمَ الأصْــل ِ كالغـُـصْن ِ كـُـلـَّـما تـَحَـمَّــلَ مِنْ خـَـيْـر ٍ تـَواضَعَ و انـْحَـنى
ركِـبَ النبيُّ صلـَّـى الله عليه و سلمَ عـُـقـْـبـَـتـَـه، و لمَّـا أراد النــُّـزولَ لهما أقـَـبَـلَ عـَـلِـيٌّ و أبو لـُـبَــابَــة َ يُـؤثِـرانِهِ برُكوبِ الدَّابـَّـة، و هُمْ إنـَّـما يؤثِـرُونَ أنـْـفـُـسـَـهَم لأنـَّـه أحَـبُّ عليهم مِنْ أنـْـفــُـسِـهـِـمْ، يقولون: نحنُ نمشيْ عنـْـكَ يا رسولَ الله. فبيـَّـنَ صلـَّـى الله عليه و سلمَ أنَّ الذي له حقُّ التـَّـمَـيـُّـز ِ هو الضعيفُ الذي لا يَـقـْـوى على المَـشْـي و أنّ المَـشْـيَ فِيْ سبيل الله ثوابٌ لا يَزهَـدُ فيه إلا محروم، فقال: "ما أنـتـُـما بأقـْـوَى مِـنـِّـيْ و ما أنا بأغـْـنـَـى عَن ِ الأجْــر ِ منكما". ثـُـمَّ نزل يمشي فـَـوَدَّ كـُـلُّ راكبٍ أنْ لـَـوْ مَـشـَـى لمـَّـا رأى رسولَ الله صلـَّـى الله عليه و سلمَ يمشي.
أكــْــرِمْ به مِنْ مـُـرسـَـل ٍ و مـُـعـَـلـِّـــــم ِ و له الشفاعة ُحِيْنَ نـُـحْـشـَـرُ فِيْ الـْـوَرَى
فـَـتـَـحَ الإلــهُ بـِـهِ قــُــلــُــوبا ً غـُـلـِّـقـَـتْ و أنـَــارَ أبْـصَــارا ً و كـَـانـَـتْ لا تـَــرَى
أمَا إنـَّـه لم تـَـكـَـدْ تـَـرَى عينٌ أو تـَـسْـمعُ أ ُذ ُنٌ بعظيم ٍ يَـقـْـبَـلُ أنْ يـُـزاحِـمَهُ أحَدٌ فِيْ راحِـلـَـتِـهِ مَهْمَا كانـَـتْ قـَـرابَـتـُـهُ أوْ مَـحَـبـَّـتـُـهُ سِوَى رسول ِ الله صلـَّـى الله عليه و سلم.
عَلا خُـلـْـقـُهُ الأخلاقَ قـَدْرا ً كـَمَا عَـلـَتْ جَـمِـيْـعَ لـَـيَـاليْ الـْـعَـام ِ لـَـيْـلـَـة ُ قـَـدْرِهِ
صلــَّــى عـلـــيـهِ اللهُ ذو الــجـــــــــلال ِ و صَــحْـــــبــِـهِ و حِــزبـِــــــــهِ و الآل ِ
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلمَ فِـيْ غـَـايَـةِ التـَّـواضـُـع ِ لِـمَـنْ أرادَه.. و فِيْ حــُـلــَّـةِ مـَـهابـَـة...
ما خالـَـطـَـهُ أحَـدٌ إلا أحـَـبـَّـه و ما رآه إلا هـابـَـه،
مـَـهــِــيْـــبٌ تـَـرَى عِـنـْـدَ أعْــتــَـابـِـــــــهِ عـِـظـــامَ المـُـلوكِ كـبعْـض ِ الرَّقـِــيْـــق ِ
ثـَبَـتَ فِيْ سُـنـَـن ِ ابن ِ مَـاجَـة َ عَـن ِ ابن ِ مَـسْـعُـودٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رجلا أتى رسولَ الله صلـَّـى الله عليه و سلمَ فأصابـَـتـْـهُ مِنْ هَـيْــبـَـتـِـهِ رِعْـدَة، ففي تواضـُـع ِ النـُّـبوَّة يـُـهدِّئُ رَوْعَه، و يـُـسـَـكـِّـنُ نـَـفـْـسَه، و يـُـشْفِقُ عليه، و يُـبـَـيِّـنُ له أنـَّـهُ ابن امرأةٍ نــَـشـَـأتْ مُـتواضِعة ً فقيرة ً خـَـشـِـنـَـة َ العيش، تأكـُـلُ اللحمَ المـُـشـَـقـَّـقَ المـُـمَـلــَّـح المـُـجـَـفـَّـفَ في الشمس، مُنـْـتسِـبا ً لها تواضـُـعا ً قائلا: "هـَـوِّنْ عليك.. إنـِّـي لـَـسْـتُ بملـِـكْ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ مِنْ قـُـرَيْـش تأكـُـلُ القـَـدِيـْــدْ".
ترقـَّى بخفض ِ النـَّفـْس ِ حتى عَلا السَّما و حَــلَّ مكانا ً لم يــكـُـنْ حُـلَّ مِنْ قـَـبْـلُ
نـَعَـمْ.. إنـَّـهُ ابنُ آكِـلـَـةِ القديدِ الأبـِـيـَّـة، و مع ذا فهو هادي البشـَـرِيـَّـة، و إمامُ البـَـرِيـَّـة، و مُحْـيـِـيْ الأمـَّـة بشـَـرْع ِ الله ذي الفضل و المِـنـَّـة.
قـَـدْ أصْبحَـتْ سُـبُـلُ الدِّيْن ِ الحَنيفِ به عـَــوامِــــرا ً بَـعْـدَ أنْ كانـَـتْ أمَـارِيْـتا
عـَـلـَّـمَـنا صلـَّـى اللهُ عليه و سلمَ أنَّ العَـظـَـمَـة َ ليستْ فِيْ اغتنام ِ الفـُـرَص ِ لتعميق ِ الرَّهْــبَـة و الرُّعْـبِ فِيْ قـلوبِ النـَّـاس ِ تـَـكـَـبُّـرا ً وتـَـعَـالـِـيا، و أنَّ العظمة َ الحقيقية َ فِيْ رفع ِ معنوياتِ الناس حتى يستطيعوا أنْ يَـبـُـثــُّـوا شـُـجُـونـَـهُـمْ و هُمومهم و يـُـعـَـبـِّـروا عمـَّـا يَخـْـتـَـلـِـجُ في نفوسِـهـِـمْ، آمنين مِنْ عُـقوبةٍ أوْ لـَـوم ٍ يـُـوجـَّـهُ لهم. فأعْـظـَـمُ النـَّـاس ِ دَلالة ً و نفعا ً و هداية ً لهذه الأمـَّـةِ هـُـمْ أعظمهم تواضُـعا.
"فبـِـهُــداهُمْ اقـْــتـَـدِه"
و هـُـداهُـم مَــــــوْرِدٌ تـَــــــــرِدُه الـْـهـِــــيْـمُ فـَـتــَـرْوى
و تـَـهْـوِي إليه النـُّـفـُـوسُ فـَـتـَـجـِـدُ عِـنـْـدَهُ ما تـَـهْـوى
و ماءُ زمْـزمَ ما يـَـنـْـفـَـــكُّ ذا عَــبَـق ٍ يـُـرْوِيْ الجُـمـُـوعَ إذا ما الماءُ قـَدْ نـَـفِـدا
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلمَ سماءً مِنْ تـَـواضـُـع...
مُتـَواضِـعٌ و هو الرَّفِــيْـعُ مَـقـَـامُــهُ و وَضـِــيعُ قـَــوم ٍ ليسَ بـالمُــتـَــواضِع ِ
لتواضُـعِـهِ يَـسْـعَـى فِـيْ حَـاجَـاتِ الناس ِ صَـغِـيْـرِها و كبيرِها، و يحـُـثُّ على ذلك فيقول: "و مَنْ مشى في حاجةِ أخيهِ حتى يـُـثـْـبـِـتـَـها له ثـَـبـَّـتَ الله قـَـدَمَـهُ يَـوْمَ تـَـزِلُّ الأقـْـدام".
كان لأهل بيتٍ مِنَ الأنصار جَـمَـلٌ يَـسْـنـُـونَ عليه فمنعـَـهم ظـَـهـْـرَه، فجاؤوا إلى رسول الله صلـَّـى الله عليه و سلمَ و قالوا: عـَـطِـشَ الزرعُ النـَّـخـْـل و مَـنـَـعَـنا الجـَـمـَـلُ ظـَـهـْـرَه. فقام رسولُ الله صلـَّـى الله عليه و سلمَ و مـَـعَـه أصْحابـُـه، فدخلَ النبيُّ الحائطـَ و الجَـمَـلُ في ناحيةٍ منه، فقالتِ الأنصار: يا نبيَّ الله، إنـَّـه قد صار مِـثـْـلَ الكـَـلـْـبِ الـكـَـلـِـبِ و إنـَّـا نخافُ عليكَ صَوْلـَـتــَـه، فقال: "ليس عليَّ مِنْ بأس". و لمـَّـا نظرَ الجملُ لرسول اللهِ صلـَّـى الله عليه و سلمَ أقـْـبـَـلَ نحوَهُ حتـَّـى خـَـرَّ ساجدا ً بيْنَ يَدَيـْـه، فأخـَـذ َ بناصيتِهِ أ َذ َلَّ ما كان، حتـى أدْخلـَـهُ في العـَـمـَـل.
و حالُ صاحـِـبِ الجـَـمـَـل:
أوْلـَـيـْـتـَـنِي كـَـرَما ً و فضلا ً زائــــدا و بـَـرَرْتـَـنِــيْ حـتـى نـَـسِـيْتُ الــوالـِـدَ
أقـْـسَـمْــتُ لـَوْ جـَازَ السُّــجُـودُ لِمُنـْعِم ٍ ما كـُــنـْـــتُ إلا رَاكِعــا ً لـَـكَ سَاجـِـدا
و هذا ابنُ عبـَّـاس ٍ رضي الله عنهما يـُـخـْـبـِـرُ أنَّ رجلا مِنَ الأنصار كانَ له فـَـحْـلان ِ فاغـْـتـَـلــَـما – هاجا و اضْـطـَرَبا – ، فأدخلـَـهُـما حائطا ً و سـَـدَّ عليهما الباب ثـُـمَّ أتى النـبيَّ صلـَّـى الله عليه و سلمَ و هو في نـَـفـَـرٍ مِنَ الأنصار، فقال: يا نبيَّ الله.. إنَّ لِيْ إليكَ حاجَة، قالَ: "حاجـَـتـَـك". قال: يا رسولَ الله، إنَّ لِيْ فحلـَـيـْـن ِ اغـْـتـَـلـَـما فأدخلتـُـهـُـما حائطا ً و سددتُ البابَ عليهما و أ ُحِـبُّ أنْ تـَـدْعُـوَ أنْ يـُـسـَـخـِّـرُهما الله لي. فلـَـمْ يدع ُ له، بل قامَ يمشي له في حاجته قائلا لأصحابه: "قوموا معنا"، فذهب حتى أتى الحائط و قال: "افـْـتـَـحْ"، ففتحَ البابَ فإذا أحَـدُ الفحْـلـَـيْن ِ قريبٌ من الباب، فلما رأى رسولَ اللهِ صلـَّـى الله عليه و سلمَ سَـجَـد. فقالَ النبيُّ صلـَّـى الله عليه و سلمَ: "إئتـِـنـِـي بشيء أشُـدَّ به رأسـَـه و أ ُمـَـكـِّـنـْـكَ منه"، فجاءَه بـخِـطام ٍ فشـدَّ به رأسـَـه و أمْـكـَـنـَـهُ منه. ثـُـمَّ مشى إلى أقصى الحائطِ إلى الفـَـحْـل ِ الآخـَـرِ فلمـَّـا رآهُ وقـَـعَ له ساجدا، فقال للرَّجـُـل: "إئتني بـخـِـطام"، فشـدَّ به رأسـَـه و أمْـكـَـنـَـهُ منه وقال: "إذهـَـبْ.. لا يـَـعـْـصِــيانِـكَ بعدَ اليوم". فلما رأى الصحابة ذلك قالوا: يا سولَ الله.. فحلان ِ لا يعــْــقِـلان ِ سجدا لك، أفلا نسجـُـدُ لك؟! قال: "لا آمـُـرُ أحدا ً أنْ يسجُدَ لأحد، و لو أمـَـرْتُ أحدا ً أنْ يـَـسـجـُـدَ لأحدٍ لأمـَـرْتُ المـَـرأةَ أنْ تـَـسـْـجـُـدَ لزوجـِـها، ذلك لـِـعِـظـَـم ِ حـَـقــِّـهِ عليها".
فـَـهَــلْ رَأيْــتَ مِـثـْـلـَـهُ يا ذا الـْـحـِـجَـا لـِـزِيْــنـَـةِ الدُّنـْـيـَـا و مَــحْـــوٍ لـلـدُّجَـى
اللـَّهُـمَّ لا....
إنه الخـُـلـُـقُ العـَـظـِـيم الذي زكـَّـاهُ العـَـلِـيُّ العظيم.
فــلا تـَـسْـتـَـنـِـنْ إلا بسُــنـَّـةِ مُـرْسـَــل ٍ لـه دونَ كـُـلِّ العالـَـمِــيْنَ الخـَـصَـائِصُ
------------------------------------------------------------
كـَـذا كان صلـَّـى الله عليه و سلم يسعى في نـَـفـْـع ِ كـُـلِّ أحَـد، و يقول: "مَـن ِ استطاع َ أنْ يـَـنـْـفـَـعَ أخاهُ فلـْــيَـنـْـفـَـعْـه".
الصبيُّ الصغيرُ حـَـظِيَ بـِـنـَـفـْـعِهِ يَوْمَ أشـْـفـَـقَ عليه أنْ يَـنـْـشأ على تـَـفـْـريطٍ فِيْ الأمَانـَـة، فتواضعَ له و تلـَـطـَّـفَ في عـُـقـُـوبَـتِهِ لـِـيـُـعـَـلـِّـمَـهُ أداءَ الأمانة.
حدَّثَ النـُّـعْـمَانُ ابنُ بشيرٍ رضي اللهُ عنه قال: أ ُهـْـدِيَ إلى النبيِّ صلـَّـى الله عليه و سلمَ عِـنـَـبٌ مِنَ الطـَّـائف، فدعاني فقال: "خـُـذ ْ هذا العُـنـْـقـُـودَ فأبـْـلـِـغـْـهُ أمَّـك"، فاشْـتـَـهَـى النـُّـعْـمانُ العِـنـَـبَ و هُـوَ يومَـئذٍ صغير فأكـَـلـَـهُ قـَـبْــــــلَ أنْ يـُـبَــلـــِّـغـَـهُ أ ُمَّهُ، قال: و لمـَّـا كان بعـْـدَ ليال ٍ قال ليْ صلـَّـى الله عليه و سلم: "ما فـَـعـَـلَ العُـنـْـقـُـود؟ أأبـْـلـَـغـْـتـَـهُ أمـَّـك؟"، قـُـلـتُ: لا. قال: فأخـَـذ َ بأ ُذ ُنِي و قال: "يا غــُـدَرْ، يا غـُـدَرْ".
لـَـقـَـدْ أشـْـفـَـقَ على الصَّـغِـيْـرِ أنْ يَـكـُـونَ أمِـيْـنا ً أعْـظـَـمَ مِنْ إشـْـفـَـاقِهِ عليه أنْ يُـحْـرَمَ مِنْ عُـنـْـقـُـودٍ اشـْـتـَـهَـاه، فانـْـتـَـفـَـعَ بذلكَ حَـيـَـاتــَـه، و حـَـدَّثَ بـِه. و صدق الله:
"حريصٌ عليكم بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم"
إذا شـَـنــَّـفَ الآذانَ ذِكــْــرُ خِـلالـِــــه يَــوَدُّ سـِــوى الآذان ِ لــو أنـَّـهُ أ ُذ ْنُ
صـَــلــَّـى عـلـيـهِ بارئُ الـْـعِــبــــــــادِ ما أمْـطـَـرَتْ سُــحْـبٌ و سَـالَ وادي
------------------------------------------------------------
و لِـكمال ِ تواضـُـعِـهِ صلـَّـى الله عليه و سلمَ لا يـَـسْـتـَـنـْـكِـفُ أنْ يـُـعَــلـِّـمَ الجاهلَ ما لـَـمْ يـُحْسِنْ عَـمَـلـَـه و هو في كامِل ِ زينتـِهِ ذاهبٌ إلى مسجده.
فعن أبيْ سعيدٍ الـخـُـدْريِّ رضي الله عنه قال: مَـرَّ رسولُ الله صلـَّـى الله عليه و سلمَ بغـُـلام ٍ يـَـسـْـلــَـخُ شاة ً لا يـُـحْـسِنُ سَـلـْـخـَـها، فعـَـزَّ عليه صلـَّـى الله عليه و سلمَ أنْ يـَـدَعـَـه، فوقف يـُـعـَـلـِّـمُـهُ قائلا: "تـَـنـَـحَّ حتى أ ُرِيَـكَ فإنـِّـيْ لا أراكَ تـُـحْـسِـنُ تـَـسْـلـَـخْ". فأدخـَـلَ يدَهُ بيْنَ الجـِـلـْـدِ و اللـَّـحْـم ِ فدَحَسَ بها حتى تـَـوارَتْ إلى الإبْـط، ثـُـمَّ قال: "يا غـُـلامُ.. هكذا فاسْـلـَـخْ"، ثـُـمَّ مضى إلى صلاتهِ و لـَـمْ يـَـمـَـسَّ ماءً.
خـُـلــُـقٌ عظيم، زكــَّـاه العليُّ العظيم: "و إنـَّـك لـَـعَــلـَـى خـُـلـُـق ٍ عظيم".
و مَنْ فيْ كتاب اللهِ عـُـظـِّـمَ خـُـلـْــقـُــــهُ فــكـُـلُّ مَــدِيْــح ٍ ماخـَـلا ذاكَ نــــــاقِصُ
صلــَّــى عـلـــيـهِ اللهُ ذو الــجـــــــــلال ِ و صَــحْـــــبــِـهِ و حِــزبـِــــــــهِ و الآل ِ
------------------------------------------------------------
كان صلـَّـى الله عليه و سلمَ عـِـمادَ تـواضـُـع و منارَةَ إخــْــبات...
وَجـَـدَ التـَّـواضـُـعَ قـــدْ تهـَـدَّمَ رُكـنـُـهُ فـَـــأقــَـــامَ ساقِـطـَ رُكـْـنِــهِ الـْـمـَـهـْـدوم ِ
يقول البَرَاءُ رضيَ الله عنه: لمـَّـا كان يومُ الأحزابِ و خـَـنـْـدَقَ رسولُ اللهِ صلـَّـى الله عليه و سلم، رأيتـُهُ يَـنـْـقـُـلُ تـُـرابَ الخـَـنـْـدَق ِ حتى وارَى التـُّـرابُ جـِـلـْـدَةَ بَــطــْــنِهِ و كان كـَـثِـيْـرَ الشـَّـعَـر. فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة و هو ينقلُ التـُّـرابَ و يقول:
"اللـَّـهُـمَّ لولا أنـْـتَ ما اهْـتـَـدَيْـنـا و لا تـَـصَـدَّقـْـنـا و لا صَـلـَّـيْــنا
فـأنـْـزِلـَـنْ سَـكـِــيْـنـَة ً عَـلـَـينــــا و ثـَـبِّــتِ الأقـْـدامَ إنْ لاقـَـيْــــنا
إنَّ الأ ُلـَى هُمْ قـَـدْ بَغـَوْ علـَـينـــا و إنْ أرَادُوا فِــتـْـنـَـة ً أبَـيْـنـــا"
يـَـمـُـدُّ بآخِـرِها صوتـَـه: "أبَـــيْـــنــــــا.. أبَــيْـــنـــــــا".
لـَـمْ يـَـجْـعـَـلْ مِنْ نـَـفـْـسِهِ زعيما ً دُنـْـيَـوِيـًّا يـُـصـْـدِرُ الأوامِرَ و النـَّـواهي و هو في حِـصـْـن ٍ منيع ٍ بمَعـْـزِل ٍ عنْ جـُـندِه تـَـحْـرُسـُـهُ الحِـراسَة، بل شارَكـَـهُـم يـَـعـْـمـَـلُ كما يـَـعْـمـَـلون، و هذا مـَـثـَـلٌ لـتواضعِهِ و سلوكِهِ الذي لا يُـدانيهِ فيهِ أحـَـدٌ من العالمين، لأنـَّـهُ قـُدْوة ٌ للعالمين.
صلــَّــى عـلـــيـــهِ اللهُ ما غــَـــــرَّدَتْ وَرْقــَــــاءُ خـَــــطـْــباءُ بأعْـلـَى فـَـنـَـن ِ
--------------------------------